مصطفى النجار يكتب : مرة أخرى ..فيروس السياحة القاتل
في يوم 13 ديسمبر، 2025 | بتوقيت 11:11 ص

القضية التى نناقشها اليوم تعيدنا إلى قضية كبرى فى عالم السياحة وهى الكم والكيف .. هل نسعى إلى زيادة الأعداد فقط أم زيادة الأعداد والعائد.. لن أشرح تفاصيل هذه القضية التى طالما ناقشتها كثيرا ، لكن هناك موضوع آخر يربتط بها بشكل أساسى وهو ما يطلق عليه فى عالم السياحة “الإقامة الشاملة”، والتى تعنى أن يأتى السائح فيها إلى مصر بعد أن دفع مقدما الإقامة و٣ وجبات والمشروبات حتى لا يخرج من الفندق لينفق بعضا من ماله زيادة عن المبلغ المدفوع مقدما لمنظم الرحلات الأجنبى من البلد التى أتى منها.
أتذكر أننى وتحديدا فى ٢٠ مايو ٢٠١٠ أى منذ نحو ١٥ عامًا كتبت مقالا فى صفحات السياحة والسفر بالأهرام ، كان عنوانه “الإقامة الشاملة فيروس السياحة القاتل”، وفيه كنت أحذر من التوسع فى الإقامة الشاملة خاصة فى الغردقة وشرم الشيخ لأن هذا النظام يجعل السائح يقيم بالفندق ليلا ونهارا ولا يغادره وأن أضرار هذا النظام كبيرة على العائد الاقتصادى لمصر من السياحة.
فالسياحة واحدة من أهم القطاعات الاقتصادية فى مصر، حيث تساهم بشكل كبير فى الناتج المحلى وتوفير العملة الصعبة وكذلك توفير فرص عمل للعديد من المصريين،
ومع ذلك فإن العائد الاقتصادى للسياحة فى مصر لايزال يواجه العديد من التحديات، أهمها هو نمط السياحة الذى يتبعه السائح الأجنبى، حيث يفوت على مصر فرصة كبيرة لتحقيق عائد اقتصادى أكبر من السياحة، ولا يتعرف على الثقافة المحلية أو يختبر الأطعمة المصرية واستكشاف مصر والحقيقة أن موضوع إقامة الشاملة «All inclusive»، بدأت دول كثير تشكو منها كما حذرت منه منذ سنوات طويلة.
فقد فوجئت في الأيام الأخيرة بهذا الموضوع مثار على وسائل التواصل الاجتماعى فى تونس الدولة المنافسة لنا سياحيا كما فوجئت بأن أحد أصدقائى من المصريين المهتمين بالسياحة كان فى زيارة إلى تونس وأخبرنى بأن موضوع “الاقامة الشاملة” لا يتوقف الحديث عنه بل أرسل إلى ما كتبه أحد التونسيين “عماد عيساوى” عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يحكى عن تجربة تونس فى هذه المشكلة فيقول أن فى تونس، يظنون أنّ السياحة هى جمعٌ للحشود حول موائد مفتوحة، ورفع عدد الليالي المقضاة، ثم عدّ الأوراق النقدية وهى تتبخّر .
يظنون أنّ «All inclusive» نعمة، بينما هو فى الحقيقة طاحونة هواءٍ تدور على حساب الوطن ويقول أن هذا النموذج ليس سياحة، بل استعمار اقتصادي ناعم، استعمار من نوعٍ جديد، يجرّد البلد من روحه، من أسواقه، من حرفييه، من مطاعمه، من شوارعه، ويحوّل كل شيء إلى “غرفة كبيرة مغلقة” لا ترى فيها تونس إلا عبر نافذة صغيرة مطلية بطلاء.
فالإقامة الكاملة ليس ابتكاراً تونسياً، بل هو وصفة صاغتها شركات دولية تعرف كيف تبتلع الدول من أطرافها وما فعلته هذه الصيغة فى المكسيك مثلاً ليس سرّاً: فنادق كبرى تبتلع الساحل، اقتصاد محلى يموت، ومدن كاملة تتحوّل إلى مجرد ديكور بشري حول صناديق عملاقة من البطون.
كذلك المغرب جرّبها، ثم فهم اللعبة مبكراً : الشركات الأجنبية تربح، والدولة تخسر، فيما المدن تذبل عند الأطراف مثل نخيل مريض.
وأيضا تركيا فهمت أكثر: جعلتها مجرد خيار، لا قاعدة، فتحت الباب ثم وضعت القفل بيدها. لأن تركيا، بخبرة التاجر العثماني القديم، تعرف أن السائح الذي لا يخرج من الفندق هو جسد بلا روح، يسكن البلد لكنه لا يراه.
أما فى تونس، فقد فتحوا الباب وتركوه مفتوحاً لم يسألوا أنفسهم يوماً : ماذا سنربح؟ ماذا سنخسر؟ تركوا الفنادق تحكم، وتركوها تُشرّع، وتركوها ترسم الحدود بين “تونس السائح” و”تونس المواطن”، فصارت الدولة كمن يبيع عشاءه الأخير للنزلاء، ثم يقف على الرصيف يراقبهم يأكلون.
المصيبة ليست في الفنادق نفسها، بل في الفلسفة التى قبلت بها الدولة: فلسفة تقوم على “بيع تونس بالجملة كل شيء في «.All inclusive» يُباع بالجملة: الوقت، الطعام، الخدمات، البحر، السهر، وحتى كرامة العامل. السائح يدفع مرة واحدة، ليأخذ كل شيء.أما الدولة فتدفع دائماً، ولا تأخذ شيئاً.
هذا نموذج اقتصادي يليق بجزر فقيرة تبحث عن أي شيء لتعيش، لا بدولة عمرها آلاف السنين، واسمها محفور على خرائط المتوسط منذ أن كان البحر نفسه طفلاً.
وحده الساذج يصدّق أن السائح سيخرج ليتسوق من المدينة إذا كان كل شيء أمامه “مجاني”.
وحده الغافل يتوقع أن الأحياء الشعبية ستربح من سائح يأكل، يشرب، ينام، ويسهر داخل حصن إسمنتي لا يسمح للهواء بالدخول.
الدولة التي تعتمد على All inclusive تشبه رجلاً يسلّم مفاتيح بيته للضيف، ثم يقف خارج الباب ينتظر الصدقة.
فى تونس، تحوّلت السياحة إلى مشكلة سياسية أكثر منها اقتصادية. وصارت أداة لشراء السلم الاجتماعي عبر “العمل الموسمي”، وأداة لترضية النقابات، وأداة لتجميل أرقام الدولة في مؤتمرات البنك الدولي.
لكنّ الحقيقة أعمق من ذلك: الإقامة الشاملة تقتل فكرة الوطن نفسها. وتجعل المدن بلا أسواق، والشواطئ بلا حياة، والبلد بلا ذاكرة. السياحة التى لا تتفاعل مع الناس ليست سياحة، بل نظام عزل صحي فاخر.
فحين نقارن مع تركيا، نرى نموذجاً مختلفاً: السائح يخرج رغماً عنه لأن البلد نفسه مصمّم كـ“منتج سياحي مفتوح”.
السياحة ليست “عدد غرف”، وليست موسماً السياحة تفكير إستراتيجى، هندسة اقتصادية، وفن إدارة البشر. وتونس، بكل إرثها القرطاجى والإفريقى والمتوسطى، تستحق أكثر من أن تُختزل فى بوفيه مفتوح من السمك المجمد والدجاج المعلّب.
تستحق سياحة ترى البلد، تلمس ترابه، تسمع ضجيجه، وتشترى من أسواقه.
وتستحق أيضا نموذجاً مدروساً يعيد توزيع الثروة على كل المدن، لا على الفنادق وحدها ورؤية متروكة منذ زمن رؤية تجعل السائح يدخل تونس لا “الفندق” وحين تفهم تونس هذه الحقيقة، ستستعيد السياحة معناها الأول وهو أن يأتى الإنسان ليرى وطناً، لا ليأكل ويغادر.
ونحن نقول صدقت أخى التونسى عماد عيساوى.. والسؤال هل تستمر مصر تحت سيطرة الإقامة الشاملة “السياحة الرخيصة”، أم أن ننتبه الى أن العبرة بالعائد الاقتصادى وتوفير فرص عمل للشباب وزيادة العملة الصعبة .



