الدكتور أحمد محمد رجب يكتب : العوائد السياحية في مصر: كيف نواجه التسرب الاقتصادي؟
في يوم 27 ديسمبر، 2024 | بتوقيت 6:28 م
في اللقاء الأخير لرئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، مع المستثمرين ورجال الأعمال، تم طرح سؤال جوهري: كم من العوائد السياحية الوافدة إلى مصر يبقى في الاقتصاد القومي؟ هذا التحدي، الذي يطلق عليه “التسرب الاقتصادي”، يشكل تحديًا كبيرًا لقطاع السياحة المصري ويحد من إمكاناته الاقتصادية.
على الرغم من أن الزوار الدوليين يساهمون بشكل كبير في تدفق العملات الأجنبية إلى البلاد وتعزيز الإيرادات في المنشآت السياحية بشكل مباشر والأنشطة الداعمة للقطاع بشكل غير مباشر، إلا أن جزءًا كبيرًا من هذه الإيرادات يتسرب خارج الاقتصاد القومي. وذلك بسبب الواردات، الأرباح المحولة من الشركات الأجنبية، وبعض العوامل الأخرى.
إن التعامل مع هذه التسربات أصبح أمرًا بالغ الأهمية لضمان استدامة القطاع السياحي وتعزيز دوره في الاقتصاد القومي على المدى الطويل.
ما هو التسرب الاقتصادي في السياحة؟
يشير التسرب الاقتصادي إلى الجزء من الإيرادات السياحية التي لا تبقى في الاقتصاد القومي، بل تغادره في شكل واردات، تحويلات أرباح الشركات الأجنبية، أو دفع أموال مرتبطة بالرحلات في الخارج.
بالنسبة للدول النامية، يتراوح التسرب بين 40-50% من الإيرادات السياحية، بينما يكون أقل في الدول المتقدمة (10-20%). وهذا يشكل تحديًا أكبر في مصر نظرًا للاختلالات في آليات عمل سوق السياحة المصري.
أسباب التسرب الاقتصادي في السياحة بمصر:
الاعتماد على الواردات : لتلبية احتياجات السياح، تستورد الفنادق الكثير من السلع مثل المواد الغذائية، المشروبات، والمنسوجات، والمعدات، وغيرها. هذا يعني أن ملايين الدولارات تُنفق خارج مصر بدلًا من دعم الاقتصاد القومي.
الملكية الأجنبية: العديد من الفنادق، المنتجعات، وشركات السياحة في مصر مملوكة كليًا أو جزئيًا لشركات دولية. هذه الشركات غالبًا ما تقوم بتحويل جزء كبير من أرباحها إلى الخارج، مما يحرم الاقتصاد المصري من عوائد هامة.
نظام الإقامة الشاملة : (All-Inclusive) تؤثر الرحلات السياحية بنظام الإقامة الشاملة بشكل كبير على سوق السياحة في مصر. تقوم الشركات الأجنبية المنظمة للرحلات بتقديم أسعار منخفضة وتسيطر على حركة السياحة عبر تعاقدات طويلة الأجل مع الفنادق، مما يسمح لها بتحقيق أرباح ضخمة. وتتركز السيطرة على معظم الحركة الوافدة في يد قلة من منظمي الرحلات الذين يستطيعون السيطرة على حجم ونوعية الحركة الوافدة الى مصر، وأسعار الخدمات التي تقدم لسائحيها.
ونظرًا لذلك أصبحت شركات السياحة المصرية مجبرة على قبول أي عمولة يحددها منظمو الرحلات الأجانب، حتى على الرحلات الاختيارية أو المشتريات داخل مصر.
في بعض الحالات، قد يصل حجم العمولة إلى 70% من مبيعات الرحلات الاختيارية و50% من مشتريات السياح من المحال السياحية، بل أن بعض منظمي الرحلات قد يفرضون مبلغ مقطوع (1-2 دولار) لكل سائح تدفعها المحال أو البازارات السياحية لمجرد توجيه السياح لزيارة هذه المحال أو البازارات بغض النظر عن قيامهم بالشراء أو لا.
وبذلك يمكن القول إن الاتجاه الحالي للسياحة الجماعية والرحلات بنظام الإقامة الشاملة في مصر، إلى جانب استراتيجية عمل الشركات الأجنبية المنظمة للرحلات، تتسبب في تسربات اقتصادية قد تصل إلى 50% من الإيرادات الناتجة عن الرحلات الشاملة في مصر، حيث إن قيمة برامج الرحلات الشاملة الأساسية لا تحول إلى مصر وإنما تقوم الشركات الأجنبية بسداد قيمة الخدمات الفندقية وقيمة الخدمات الأرضية في مصر من العمولات التي تتحصل عليها من مبيعات الرحلات الاختيارية وعمولات مشتريات السائحين.
الحلول: كيف يمكن لمصر الحد من التسرب الاقتصادي في السياحة؟
تعظيم استخدام المكونات المحلية: يجب تقليل الاعتماد على الواردات من خلال تعزيز الإنتاج المحلي وتطوير سلاسل التوريد المحلية. دعم المزارعين والمنتجين المحليين لتلبية احتياجات قطاع السياحة يمكن أن يساعد في تقليل الفاتورة الاستيرادية.
تشجيع الأعمال المحلية: من خلال تقديم الحوافز المالية ودعم الشركات المحلية، يمكن تقليل الاعتماد على الشركات الأجنبية. تشجيع الفنادق والمطاعم ووكالات السفر الوطنية على الاستثمار والنمو هو أمر بالغ الأهمية.
استهداف شرائح سوقية متنوعة: ينبغي أن تتنوع الأسواق المستهدفة، وألا تقتصر السياحة على السياح الذين يأتون من خلال نظام الإقامة الشاملة فقط، مما يساهم في تنمية قطاعات أخرى مثل المطاعم المحلية والأسواق.
تطوير آلية مصرفية جديدة: من أجل ضمان استفادة الاقتصاد المصري بشكل كامل من عائدات السياحة الدولية، يمكن التفكير في إنشاء آلية مصرفية تلزم الشركات الأجنبية المنظمة للرحلات بتحويل المبالغ المالية الخاصة بالرحلات التي تنظمها في مصر من حساباتها البنكية بالخارج إلى محفظة مالية متفرعة عن الحساب البنكي لشركات السياحة المصرية. ويمكن ربط هذه الآلية بالعقود المبرمة بين الشركات ومنظمي الرحلات الأجانب، والتي يجب أن تُسجل في وزارة السياحة والآثار. بالإضافة إلى ذلك، يمكن ربط هذه الآلية بإصدار تأشيرات دخول إلكترونية مسبقة للسياح، مما يعزز الشفافية ويضمن دخول العوائد السياحية إلى الاقتصاد القومي بشكل مباشر.
ختامًا، يجب إعادة التفكير في السياحة كأداة أساسية لتمكين المجتمعات المحلية وتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة، بدلاً من التركيز فقط على جذب أكبر عدد ممكن من الزوار الدوليين. يتطلب الحد من التسربات الاقتصادية في القطاع السياحي حوارًا جادًا ورغبة حقيقية من جميع الأطراف المعنية لوضع استراتيجيات فعالة تهدف إلى تحقيق أقصى استفادة من العوائد السياحية. من خلال ذلك، يمكن لمصر بناء قطاع سياحي مرن ومستدام يسهم في تعزيز مكانتها الاقتصادية على المدى الطويل.
كاتب المقال :
استاذ الدراسات السياحية وخبير إحصاءات السياحة، مستشار منهجيات إحصاءات السياحة بوزارة السياحة السعودية